وساوس ما بعد السقوط !!!

وساوس ما قبل السقوط كلنا يعرفها ... وهي التي تزين فعل الذنب في عين الموسوس له إلى أن يسقط فيه.

فما وساوس ما بعد السقوط؟؟!!!

حين يسقط الإنسان فجأة في ذنب كبير، أو حين يتكرر الذنب منه كثيراً، أو حين تتكاثر الذنوب وتتنوع عليه، يبدأ الإنسان في التفكير في جدوى أن يستمر محافظاً على البقية الباقية من دين الله مما لا يزال يلتزم به من شرائع الإسلام وما مازال يتركه من نواهيه !!!

وتبدأ ها هنا وساوس ما بعد السقوط في الذنوب ...

إنها وساوس ... تنطوي على الكثير المغالطات التي تؤدي إلى التيئيس من رحمة الله ...

وساوس ... كثير منها حق يراد به باطل ...

وساوس تحقر من دين العاصي وتصور له أنه إن استمر على طاعته لربه بعد صدور كل هذا منه فهو إنسان متناقض أو منافق.

تقول له: استح من ربك ... كيف تقابله في صلاة أو قراءة قرآن أو أية عبادة بعد أن صدر منك ما صدر.

تقول له: كن صادقاً مع نفسك ولتكن أعمالك من اليوم فصاعداً تليق بالمنحدر الذي وصلت إليه.

تقول له: لو كان فيك خيرٌ لما تركك الله تتهاوى في أودية الغي وادياً بعد وادي، لكن ... من يدري ... لعل سبب ما يحدث لك أن الله قد قدر عليك النار فتركك إلى ما ترى من التردي!!! وكل ميسر لما خلق له.

تقول له: كم مر عليك وأنت على هذا التلون في الدين؟ عليك أن تعترف أن الدين - والاستقامة عليه - ليس طريقك، هو طريق ذوي الهمة العالية الأتقياء الأنقياء، فدع لهذا الطريق أهله، وضع النقاط فوق الحروف، وحدد مكانك المناسب في هذه الدنيا قبل فوات الأوان، فالعمر واحد، والحياة فرصة لن تتكرر، أما وقد ثبت عجزك عن تحصيل نعيم الآخرة فلا تعجزن عن تحصيل نعيم الدنيا، وإلا فاتك الاثنين.

تقول له: خذ الإسلام كله، فإن لم تستطع فدعه كله، ولا تتخذ بين ذلك سبيلاً.

تقول له: أنت نجس لا يليق لمثلك أن يخالط الصالحين، فتنجسهم وتلوث سمعتهم. ابحث لك عن رفقة من الأنجاس تليق بمثلك.

وهكذا وساوس لا تنتهي، ظاهرها الندم والحسرة وجلد الذات، وباطنها خطوات ماكرة لإبعاد الضحية عن طاعة ربه وأهل الطاعة وتيئيسه من الاستقامة.

وهكذا هي خطوات الشيطان، فما إن يفرغ من تزيين المعصية، و يسقط الضحية، حتى يستغل شعور الندم والحسرة واحتقار النفس عنده في جره إلى ما هو أخطر من المعصية نفسها – الإعراض عن الله وعباده الصالحين بالكلية، وترك البقية الباقية مما عنده من الدين.

إننا أمام إنسان عنده ذنب أو ذنوب كثيرة، ولا يستطيع تركها ولا التوبة منها، وهذه الوساوس تحاول أن تأتي على ما تبقي من دينه وتقنعه أن يعرض بالكلية عن الله وشرعه.

فكيف ندحض - من أصول الشرع وقواعده - هذه الشبهات والوساوس عنده حتى نقنعه أن حفاظه على البقية الباقية من دينه خير له عند ربه من اليأس من رحمته وترك الحبل على الغارب، والذي يؤدي إلى أن يفعل من الذنوب ما لم يكن يفعل، وأن يترك من الفرائض والواجبات ما لم يكن يترك؟؟؟

هذا ما سأناقشه على مراحل في المناقشات التالية:

مناقشة 1: ما جدوى الاستمرار في المحافظة على البقية الباقية من دين الله في ظل الاستمرار على ذنب أو مجموعة من الذنوب مُتوعَّدٌ فاعلها بالنار؟

للبحث في جدوى الاستمرار، دعونا نبدأ من أسوأ الفروض، وهو أن هذا الإنسان مات على هذه الذنوب من غير توبة، ولم يرحمه الله وأدخله النار، فماذا استفاد من محافظته على بقية الدين بعد أن دخل النار؟

1. عدم الخلود في النار: الذي تدفعه ذنوبه لأن يعرض عن الدين، سينقض الإسلام عروة عروة حتى يترك الصلاة، وسينتهي به الأمر إلى الكفر والذي يعني الخلود في النار. وما كان ذلك ليحدث لو أنه لم يترك الحبل على الغارب بسبب ذنوب اصابها.

وهذه فائدة لمحافظة صاحب الكبائر على بقية الدين على الرغم من دخوله في النار.


2. تخفيف مدة العذاب: فالذي يأتي بكبيرة واحدة ليس كالذي يأتي بسبع كبائر، والذي يأتي بسبع كبائر ليس كالذي يأتي بسبعين كبيرة وهكذا. فتزداد المدة بحسب الذنوب، ثم يخرج من النار ما دام في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان كما جاءت بذلك النصوص.

وهذه فائدة أخرى لمحافظة صاحب الكبائر على بقية الدين على الرغم من دخوله في النار.

3. تقليل صنوف العذاب: هناك نصوص تخبر باختلاف العقوبات في النار بحسب نوع الذنب، فآكل الربا يصاب بما يشبه المس في النار، ومانع الزكاة تُحمى أمواله على ظهره وجنبه في النار، وشارب الخمر يشرب من عصارة أهل النار (ردغة الخبال) وهكذا. ولا شك أن الأكثر أصنافاً هو الأكثر عذاباً، أرأيتم المسجون في الدنيا الذي يعذب بالسياط وحدها هل يستوي هو ومن يعذب بالسياط والكهرباء وقرض الأظفار والحرق بالسجائر وما شابه ذلك. فالذي كانت كبيرته شرب الخمر فقط، كان سيعذب بعذاب أهل الخمر، لكن لأنه ترك الحبل الغارب يوم أن ظن أن لا جدوى في تحريم بقية المحرمات على نفسه، سيتمنى حينئذ يوم يرى تكاثر صنوف العذاب عليه لو اقتصر على ذلك الذنب وحده.

وهذه فائدة ثالثة لمحافظة صاحب الكبائر على بقية الدين على الرغم من دخوله في النار.

4. تخفيف المنزلة في النار: لا شك أن النار دركات كما أن الجنة درجات، ولا يستوي في العذاب من يمكث في ضحضاح منها ومن يمكث في الدرك الأسفل من النار.

وهذه فائدة رابعة لمحافظة صاحب الكبائر على بقية الدين على الرغم من دخوله في النار.

وهكذا يتبين أنه حتى مع أسوأ الفروض وهو دخول المذنب في النار، فإن الالتزام بالطاعات والامتناع عن بقية المحرمات نفعت صاحبها حتى وهو في العذاب!!!

فكيف لو لم يحدث أسوأ الفروض؟ بل كيف لو كانت هي السبب في عدم حصول أسوأ الفروض؟

مناقشة 2: هل صاحب الكبائر إذا حافظ على بقية الدين يكون متناقضاً أو منافقاً.

هل يكون متناقضاً؟

إذا علمنا من نصوص الشرع أن كل بني آدم خطاء، فهل نقول كل بني آدم متناقض؟

التناقض يكون حين يحاول الإنسان الجمع بين شيئين لا يجتمعان، كالجمع بين الكفر والإيمان.

أما الجمع بين المعصية والطاعة، فهو أمر جبلي لا يسلم منه الإنسان.

نعم الساقط في الكبيرة على خطركبير، ولكن خطورة موقفه لا تعني أنه من الخير له أن يترك بقية دينه لئلا يكون متناقضاً مع نفسه بزعمه فيعرض عن الله بالكلية أو يتمادى في المعاصي.

بل تعني أن يسرع إلى التوبة من الذنوب وعدم الإصرار عليها سواء كانت كبيرة أم صغيرة.

لكن كيف إذا عجز؟

يعلم حينئذ أن أعماله ستوزن عليه بما فيها الكبائر التي أصر عليها والمطلوب منه حينئذ أن لا يطيش بكفة سيئاته أكثر مما هي طائشة، ومطلوب منه الإكثار من الطاعات حتى يرفع كفة الحسنات.

ويبقى مطلب الاستغفار والتوبة واجباً عليه، بمحاولة تكرار التوبة حتى مع قناعته بعجزه إذ في ذلك معذرة إلى ربه ولعل الله أن يطلع عليه وهو يحاول ويفشل ويحاول ويفشل ويحاول ويفشل فيقول اعمل ما شئت فقد غفرت لك.

وهل هو منافق حين يراه الناس يعمل أعمال الصالحين وهو عنده من الكبائر ما عنده؟

لا شك أن جُرأة الإنسان على الكبائر وإصراره عليها هي دليل على ضعف في الإيمان، وهو عندالله فاسق.

لكن الشرع هو الذي أمر بستر الذنب وعدم المجاهرة به، فلو كان هذا عند الشارع من النفاق لما أمر به، وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ،وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح قد ستره ربه فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يستره ربه ، فيبيت يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه". ( رواه البخاري ومسلم)

والنفاق كفر مخرج من الملة، وكما هو معلوم؛ الشرع لا يكفر فاعل الكبيرة، فكيف يظن هذا الموسوس أن استمراره على الالتزام بما كان يلتزم به من الدين هو من النفاق؟

فدعوى التناقض أو النفاق عند استمرار العاصي في الاستمرار بما يفعل من الدين ما هي إلا وساوس شيطانية ليستغل حالات جلد الذات التي يمر بها العاصي بعد الذنب من أجل سحبه عن صراط الإسلام بالكلية أو على الأقل سحبه إلى كبائر أخرى.

مناقشة 3: هل المطلوب من العاصي ألا يقابل ربه في صلاة ولا قراءة قرآن من باب الحياء من الله؟ وهل من لوازم الصدق مع النفس أن يعرض عن الله بالكلية من أجل كبائر أصابها؟

نناقش هنا ما أوردناه من وساوس والتي منها "استح من ربك ... كيف تقابله في صلاة أو قراءة قرآن أو أية عبادة بعد أن صدر منك ما صدر".

هذه تبدو كلمة بريئة، يُصغي لمثلها المذنب النادم باهتمام، ويرى أنها تدعوه للحياء من الله.

لكن النتيجة التي سيصل إليها أن المطلوب منه أن يستحي من ربه فلا يتقرب إليه لا بصلاة ولا بأية عبادة أخرى.

وها هنا مكمن الخطر !!!

لو كان هذا الموسوس عاقلاً، لعلم أن الحياء من الله يتطلب منه الكف عن الذنب لا الإعراض عن الله. فإن لم يستطع فلا أقل من أن يثبت لربه أنه لا زال على عبوديته له فيما سوى ذلك.

ولو كان عاقلاً لعلم أن الإعراض عن الله بالكلية أبعد ما يكون عن الحياء منه، بل هو جُرأة عليه زائدة عن الجرأة الأولى التي أوقعته في الذنب.

تخيل موظفاً تأخر عن الدوام، فأحس بالحياء من مقابلة مديره، فقرر ألا يداوم ذلك اليوم كله، ثم لما رأى أنه قد تغيب يوماً كاملاًً، استحى أكثر منه في اليوم التالي، فقرر ألا يداوم أيضاً، وهكذا إلى أن فُصل!

ولله المثل الأعلى ... يظل العاصي ينقض عُرى الإسلام عروة عروة بحجة الحياء من الله لذنوب ألمَّ بها إلى أن يُدخله الله النار.

كلمة أخرى وردت ضمن الوساوس تقول: "كن صادقاً مع نفسك ولتكن أعمالك من اليوم فصاعداً تليق بالمنحدر الذي وصلت إليه".

مرة أخرى .... ظاهر هذه الكلمة أنها تدعو الإنسان للصدق مع النفس ...

ومن منا لا يحب الصدق مع النفس؟؟

ومن منا لا يكره التلون وخداع النفس؟

لكن الصادق الحقيقي مع نفسه هو من يحاول الخروج من هذا المنحدر الذي سقط فيه ...

لا أن يترك نفسه تهوي أكثر وأكثر بحجة الصدق مع النفس، فإن هذا دأب العاجز لا الصادق.

الصادق مع نفسه يعلم أنه عبد لا يستطيع أن ينفك عن عبوديته لربه بالكلية حتى ولو ضعف في بعض جوانب العبودية.

مناقشة 4: هل لي أن استنتج مما كسبت يدي أن الله قد كتب علي النار؟

قد تراود العاصي وساوس من هذا النوع، تقول له: " لو كان فيك خيرٌ لما تركك الله تتهاوى في أودية الغي وادياً بعد وادي، لكن ... من يدري ... لعل سبب ما يحدث لك أن الله قد قدر عليك النار فتركك إلى ما ترى من التردي!!! وكل ميسر لما خلق له".

ويمكن أن يجاب على هذه الشبهة بعدة طرق:

أولاً:

أن قدر الإنسان ومصيره الأخير غيبٌ لا يمكن لأحد أن يستنتجه مما يجري، فليست العبرة بما يظهر للإنسان من أعماله، بل العبرة بما هو مقدر في اللوح وعند نفخ الروح والذي لا يعلمه أحد إلا الله ومن أطلعهم الله من ملائكته.

‏عن ‏زيد بن وهب ‏عن ‏عبد الله ‏ ‏قال ‏حدثنا رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏- ‏وهو الصادق المصدوق -:‏"‏إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك ‏‏علقة‏ ‏مثل ذلك ثم يكون في ذلك ‏مضغة ‏‏مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه ‏‏ الكتاب ‏ ‏فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ‏ ‏فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" (رواه البخاري)

وهكذا نرى أنه قد يعمل الإنسان بعمل أهل النار إلى آخر ساعات حياته، ثم يتوب في آخر لحظة فينجو من النار، ويظهر بذلك خطأ استنتاجات بعض أهل المعاصي أنهم من أهل النار من واقع حالهم. والعكس أيضاً صحيح.

ثانياً:

أن الله أوحى لنبيه مصير أناس دخلوا الجنة أو النار بسبب أعمال لا يُلقي لها أحد بالاً، كقصة المرأة التي دخلت النار في قطة حبستها، وقصة المرأة البغي التي سقت لكلب فدخلت الجنة، ونحو هذه القصص.

كل هذا ليخبرنا أن موازينه غير موازيينا وأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عقاب الله لطاعات عملها مهما كانت ولا ينبغي لأحد أن ييأس من رحمته – سبحانه - لذنوب أصابها مهما كانت.

فالذي يستنتج من عمله أنه من أهل النار (أو أنه من أهل الجنة) فهو لم يفهم لماذا ذكر لنا الله مصير هؤلاء غير المتوقع !!!

ثالثاً:

هيهات أن يطلع الله البشر على مصيرهم.

لو أنه بالإمكان للبشر أن يعرفوا مصيرهم استنتاجاً من أعمالهم، لانتهى الحال بمن عرف أن مصيره النار أن يكون كإبليس في حرصه على الشر بكل طريقة يستطيع سواء مع وجود الدافع للمعصية وبدونه، وذلك لأنه حينئذ آيس من رحمة الله، أي أن الشرع حينئذ يصنع شياطين أيسوا من رحمة الله فبارزوه بكل معصية وشر.

بهذا يتبين خطأ من استنتج مصيره من واقع حاله.

ولست أدعوه أن يعتقد أنه من أهل الجنة، ولكن عليه أن يدرك الخطر الذي هو فيه من واقع حاله، ليتوب - أو على أقل تقدير ليصلح ما بقي من دينه - لا ليستنتج جازماً مصيره.

مناقشة 5: إذا اكتشفت أنه لا حظ لي في الاستقامة لحقارتي وسُفول همتي، فلماذا لا أعيش دنياي على هواي حتى لا يفوتني كلا الخيرين؟

هذه من ضمن الوساوس التي تراود الإنسان بعد تكرر السقوط منه واستفحاله ...

تقول له:

كم مر عليك وأنت على هذا التلون في الدين؟

عليك أن تعترف أن الدين - والاستقامة عليه - ليس طريقك، هو طريق ذوي الهمة العالية الأتقياء الأنقياء، فدع لهذا الطريق أهله، وضع النقاط فوق الحروف، وحدد مكانك المناسب في هذه الدنيا قبل فوات الأوان، فالعمر واحد، والحياة فرصة لن تتكرر، أما وقد ثبت عجزك عن تحصيل نعيم الآخرة فلا تعجزنَّ عن تحصيل نعيم الدنيا، وإلا فاتك الاثنين.

الجواب:

نعم لا بد من وضع النقاط على الحروف ... ولا يقول عاقل يدرك حجم عذاب الآخرة أن وضع النقاط على الحروف يقتضي المغامرة بالاستسلام للانحطاط الموجب لعذاب الله الأخروي في سبيل عدم تفويت النعيم الدنيوي (إن صح أنه نعيم وإلا فهو نعيم في وسط كمٍّ من المنغصات).

أما الزعم بأن الحياة فرصة لن تتكرر ...

إن كان المقصود فرصة التنعم بالحياة لن تتكرر... فنقول بلى ... ستتكرر وبنعيم أفضل من نعيم هذه الحياة ...

مرة في حياة البرزخ للمنعمين فيها ...

ومرة في حياة الجنة ...

وذلك لا يكون إلا لمن أحسن في الحياة الأولى.

والصحيح أن يقال "الحياة فرصة لن تتكرر لحجز مكان لي فيما بعدها من نعيم أولرفع مستواي في ذلك النعيم" ، لأن فرص التنعم موجودة بعد هذه الحياة، ولكن الفرصة التي لن تتكرر ولا توجد بعد هذه الحياة هي فرصة كسب الحسنات والتي بناء عليها يتحدد أحد المصيرين ودرجة البشر فيهما.

إذاً ... وضع النقاط على الحروف يكون بفعل كل ما من شأنه أن يزيد الحسنات ويقلل السيئات، وذلك قد يختلف حسب حال الشخص وهمته.

يمكن أن نرتب حرص الإنسان على تكثير الحسنات وتقليل السيئات حسب همته بما يلي:

- المطلوب من كل إنسان الاستقامة على الصراط وعدم الخروج عنه.

- فإن سفلت همته وخرج عنه ... فالمطلوب منه سرعة العودة إليه لئلا تجتاله الشياطين خارجه فلا تتركه يعود أبداً أو تبعده عنه إلى أقصى مسافة ... إلى الكفر.

- فإن علت همته وعاد إلى الصراط، فالله يغفر ما كان وقد يبدل سيئاته حسنات.

- ثم إن سفلت همته ثانية وخرج عنه فليفعل تماماً ما فعل في السقوط الأول من سرعة العودة إلى الصراط.

- فإن كان هذا دأبه خروج عن الصراط عند سفول الهمة وعودة صادقة عند علوها فلا ييأس ولا يمل من التكرار، لأنه هو المحتاج إلى هذه العودة وسيظل محتاجاً لها ما تكرر منه السقوط، فخطر بقائه خارج الصراط على دينه ومصيره لا يعدله شيء ، ثم من يدري لعله يتحقق فيه الحديث الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:"أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي . فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي.ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي." رواه البخاري ومسلم.

- فإن فخرج ولم يعد بسبب سفول دائم في همته، فهذا الذي يحتاج إلى وقفة طويلة مع نفسه ...

لكن نقول: إن لم يكن ثمة عزيمة على العودة، فلا يترك الشياطين تجتاله عن بقية دينه، ولا يجعل من ذنب ضَعُفَ عنده سبباً للتفريط في كل شيء والجرأة على كل شيء.

بقي مناقشة قوله: "عليك أن تعترف أن الدين - والاستقامة عليه - ليس طريقك، هو طريق ذوي الهمة العالية الأتقياء الأنقياء "

ليس كل الأتقياء الأنقياء بدأوا حياتهم وهم على تقوى واستقامة، بل منهم من كان على فجور أو ضلال، ثم تاب، ومنهم من كان في بدايته يتوب ثم يعود ويتوب ثم يعود وهكذا ... إلى أن استقر بعد معاناة وتعب على التقوى والاستقامة.

والهمة العالية قد تكون فطرية تولد مع الإنسان وقد تكون مكتسبة أي يحمل الإنسان نفسه عليها، وكل من أدرك أن الله لا يقبل مثل هذه الأعذار أي الاعتذار بضعف الهمة ونحوه سيدرك أنه في دائرة الخطر وسيرفع خوفه من عذاب الله من همته إذا لم يرفعها رجاؤه لثوابه.

وهكذا نرى ...

أنه لا توجد حالة ينفك فيها المسلم عن العبودية لربه والاستقامة على صراطه المستقيم، فهي ملازمة له ما دام في هذه الدنيا، إلا إذا كفر فليس بعد الكفر ذنب.

فمن الذي قال أن الدين والاستقامة عليه هو شيء مفروض على الأتقياء الأنقياء أهل الهمة العالية وحدهم؟!!

كلا ... ليس صحيحاً.

تحري الاستقامة على الدين تبقى غاية كل مسلم - ما دام مسلماً - ولو كان عنده فجور وفسوق، إذ لا يسع المسلم أياً كان فجوره أن يعتقد أنه لم تعدالاستقامة على الصراط تصلح لأن تكون أكبر غاياته بعد أن أدرك من ضعف نفسه وهمته ما أدرك.

وكما أنه لا ينفك مسلم عن الصلاة، كذلك لا ينفك مسلم عن تحري الاستقامة على الصراط.

أليس المسلم لا ينفك عن قوله إهدنا الصراط المستقيم في كل ركعة؟

مناقشة 6: من ضعف عن العمل بالإسلام كله، هل ينبغي عليه أن يترك الإسلام كله؟

نناقش هنا وسوسة ترد على العاصي تقول له: خذ الإسلام كله، فإن لم تستطع فدعه كله، ولا تتخذ بين ذلك سبيلاً.

هذه الجملة يصح أن تقال لمن أخذ ببعض الكتاب وكفر ببعض، كمن قال: أنا سأعمل بالدين كله إلا الربا، فلا أعده حراماً.

مثل هذا له حكم المستحل لما حرم الله وهذا العمل هو أحد نواقض الإسلام، والذي يمكن أن يقال في حقه: "خذ الإسلام كله أو دعه كله"، لأنه حينئذٍلا ينفعه العمل ببقية الدين.

أما العاصي غير المستحل للمعصية المقر بأنها حرام، فهذا لم يأت بناقض من نواقض الإسلام حتى يقال له خذ الإسلام كله أو دعه كله، بل لا يزال مسلماً إلا أنه تجرأ على حد من حدود الله، وهو لذلك متوعد بعذاب الله، وهو في مشيئته إن شاء غفر له وإن شاء عذبه إلى أجل (الله أعلم بطوله) ثم ينتهي مصيره إلى الجنة ما دام لم يأتِ بناقض من نواقض الإسلام.

ولو عمل الناس بهذه القاعدة ولم يقصروها على المنكر لشيء من الدين، لما بقي أحد على الملة، إذ كل أحد عنده تقصير في جانب من جوانب الإسلام، قد يكون في أمر فرعي، وقد يكون في أمر من الكبائر.

بهذا يتبين أن ورود مثل هذه الشبهة على الإنسان بعد سقوطه في الذنب هي من الوسوسة ومن الحق الذي يراد به باطل، والمقصود منها إقناع العاصي بأن يترك بقية الدين وبعدم جدوى استمراره عليه وذلك في ذنب لا يكفر صاحبه، وقد ناقشنا ذلك باستفاضة في مناقشات سبقت حول جدوى المحافظة على بقية الدين للعاصي.

مناقشة 7: هل يجب علي الابتعاد عن صحبة الصالحين إذا علمت من نفسي أنني لست أهلاً للاستقامة؟

هذه إحدى الوساوس الخطيرة والتي يحاول بها الشيطان عزل المذنب الكاره لذنبه عن أهل الخير.

تقول له: "أنت نجس لا يليق لمثلك أن يخالط الصالحين، فتنجسهم وتلوث سمعتهم. ابحث لك عن رفقة من الأنجاس تليق بمثلك".

للجواب على ذلك نقول ...

التقرب إلى الله بمخالطة الصالحين ومجانبة الفاسقين هو أحد أهم ما يعين المسلم على الاستقامة على الصراط.

وقد وردت نصوص كثيرة تبين خطورة الصحبة ...

منها ...

قول الله - سبحانه - على لسان الفاجر النادم: "يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً"

وقول النبي – صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" (حسنه الألباني).

وجاء في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس نصح العالم له أن يخرج من أرضه لأنها أرض وسوء وقومها قوم سوء.

ويبقى هذا الأمر - اتخاذ الصحبة الصالحة - أحد الواجبات المفروضة على كل مسلم بغض النظر عن مستوى صلاحه أو فساده.

أما العاصي ...

فهو إما أنه مستتر بذنبه لا يعلم به أحد، فهذا تنفعه مخالطة الصالحين في إقامة بقية دينه ولا تضرهم لأنه مستتر.

وإما أن أمره مكشوف لدى الناس، فهذا لايزال من جهته مطالباً باتخاذ الصحبة الصالحة.

أما من جهة الصالحين ... فالأمر يتوقف على تقديرهم للأصلح في التعامل معه، فإن كان الأصلح له ولهم أن يهجروه هجروه، وإن كان الأصلح لهم وله أن يخالطوه وأنه لا جدوى من هجره في مجتمع الفساد فيه مهيمن، خالطوه في غير معصيته.

وبكل حال، فإن هذه الشبهة أو الوسوسة لا تصح.

أما قوله عن نفسه "أنت نجس" ... فالجواب:

أن "المؤمن لا ينجس" و"إنما المشركون نجس" كما تقول نصوص الوحي.

بهذا نكون قد انتهينا من الرد على جميع الوساوس الواردة في الموضوع.

ليست هناك تعليقات: