بعد يوم متعب من الجري والخوف والترقب، وصل رُشدي إلى كهف بعيد عن المدينة، فجلس على ثغره، وأسند ظهره إلى جداره الصخري، واسترخى.
كان سبب هروبه من المدينة الفاضلة هو كتابه الأخير الذي سخر فيه من دين المدينة، ومقدساتها، وتجاوز كل الخطوط الحمراء، وأثار غضباً واسعاً فيها، حتى تنامى إلى مسامعه أنهم قد أهدروا دمه، فلذلك فر منهم.
وبينما هو مسترخ عند فم الكهف، سمع أصوات كلام، فنظر إلى أعلى الكهف، فإذا خفافيش معلقة في سقفه، أرجلها إلى السقف، ورؤوسها إلى الأرض، تتبادل الحديث فيما بينها.

قال أحدها: إلى متى سنبقى منعزلين عن العالم؟ كل المخلوقات تعيش في النور، يعرف الناس متى تأكل، ومتى تلد، ومتى تموت، أما نحن فنعيش على هامش الحياة، لا أحد يعرف عنا شيئاً.
وقال آخر: صدقت والله ... لقد وصل بي الحال إلى أنني أحب أن أشتهر ولو باللعن! تمنيت أن الناس تشتمني وتلعنني بإسمي، فأشتهر بسبب ذلك. وهكذا مضى حديثهم، يندبون حظهم والتهميش الذي يعيشونه ويُمنُّون أنفسهم بعالم الشهرة والنور.
استمع رُشدي إلى حديثهم كاملاً، ثم أخذ يفكر في فشله في إفساد المدينة الفاضلة، وأن عليه إيجاد طريقة أخرى لإفسادها، خصوصاً وأن الأموال التي دفعت له من أجل إفسادها كبيرة وستكون هناك محاسبة عليها إذا ما فَشِل.
وفجأة ... قفز إلى داخل الكهف صارخاً: أيتها الخفافيش، أنا سأحقق لكم حلمكم!
قالوا: من أنت؟
وكيف ستحقق حلمنا؟
قال: أنا أشهر من نار على علم، يعدونني في المدينة الفاضلة من شياطين الإنس، حتى شبهوني في خلقتي بالشيطان!
أنا رُشدي! أما كيف سأحقق لكم الشهرة، هو عن طريق ساحة الحرية في المدينة الفاضلة.
قالوا: وما ساحة الحرية؟
قال: ساحة كبيرة في حديقة المدينة، يجتمع فيها أهالي المدينة للتناقش في أمور شتى، في السياسة ... في الحياة ... في الدين ... في الأدب. إلا أن نقاشاتهم ليست شفوية، بل كتابية، فهناك صندوق كبير كحصالة النقود، يضع فيه كل صاحب موضوع موضوعه، وكل صاحب ردٍّ ردَّهُ، فيأتي المشرف على الساحة ويلصق المواضيع وردودها على لوح عريض بطول الساحة.
ويقرأ الناس المواضيع من هذا اللوح.
قالوا: وما علاقة كل ذلك بشهرتنا؟
قال: ستشاركون في هذه الساحة بمواضيع مغرضة، تجعلكم تشتهرون حين يلعنكم الناس!
نظر الخفافيش إلى بعضهم البعض، وقالوا لبعضهم البعض: لقد كنا نحلم بالشهرة ولو في الشر ولو باللعن، وها قد جاء العرض المغري إلى كهفنا، فماذا ننتظر؟!
فردوا على رُشدي: موافقون.
قال: أبطال! ما خاب من استعان بكم.
سأذكر أولاً الأدوار المطلوبة منكم، ثم أوزعها عليكم:
- نحتاج إلى من يكتب مواضيع تُشكك بثوابت دينهم، وأصول معتقداتهم.
- نحتاج إلى من يكتب مواضيع تثير فتناً عرقية وقُطرية في المدينة الفاضلة، بين القبيلي والخضيري، بين البدوي والمتحضر، بين الأصيل والمجنس، بين المواطن والوافد، وهكذا.
- نحتاج إلى من يكتب لهم أخبار الساقطين والساقطات من أهل كل فن، ويجعل منها مواضيع ساخنة للنقاش.
- كذلك نحتاج إلى من يمثل دور المتعاطف مع المرأة، فيهاجم الرجال والمجتمع والدين في مواقفهم من مجموعة من القضايا تهم المرأة، ليكسب ودها ويُسيِّرُها إلى ما نريد.
- كذلك نحتاج إلى من يثير فتناً بين الحكام والمحكومين، والعلماء والعامة، حتى يتمرد الناس على السلطة والدين.
ووسائلكم في ذلك كثيرة، وليس عندنا وسيلة محرمة، بل كل الوسائل حلال لنا:
منها الإشاعات عن أعلام ووجهاء هذه المدينة، وينبغي أن يدخل أكثر من واحد منكم في الموضوع ليؤكد الإشاعة حتى يقتنعوا أنها حقيقية، حين يرون تواتر النقل!
ومنها النقل غير الأمين للنصوص من كتب أئمتهم، لتشكيكهم في قضية ما.
ومنها الدخول بأكثر من اسم مستعار ليستطيع كل واحد منكم إدارة النقاش لوحده بينما يظن القراء الأغبياء أن أناساً كثيرين يتناقشون.
ومنها اختراع نقاش وهمي فيما بينكم، يمثل خفاش منكم دور طالب علم فاضل وخفاش آخر دور صاحب شبهات، فيأتي صاحب الشبهات بأقوى الشبهات، وطالب العلم لا يملك إلا الشتائم والردود الهزيلة.
وزع رُشدي الأدوار، ثم ترك لهم اختيار الأسماء المستعارة.
بدأ العمل على قدم وساق، تُطبخ الخطط في هذا الكهف المُظلم، ثم تطبق في ساحة الحرية.
وكانت الخفافيش ترمي المواضيع والردود في الصناديق في ظلمة الليل لئلا يعرفها أحد، وتتفرج في النهار من كوة مظلمة في حمامات الحديقة إلى اجتماع الناس على مواضيعهم وتكاثرهم عليها تكاثر الفراش على النار.
وكم كانت تفرحهم الأعداد الكبيرة المجتمعة على مواضيعهم، وكم كانوا ينـتـفشون وهم يرون كثرة الردود الملصقة على مواضيعهم على لوح الساحة العريض، حتى تصل في بعض الأحيان إلى أسفل اللوح ... إلى الأرض.
وكان رُشدي بالرغم من سروره بنجاح الخطة، يمتعض من هذا المنظر، ويقول في نفسه: انتهى زماننا نحن الكُتاب بالأسماء الحقيقية، وهذا زمان الخفافيش التي تكتب خلف الأسماء المستعارة!
هذا زمان انتفاش الخفافيش!
وبالفعل، نجحت الخفافيش، وظهرت الفتن وظهر الفساد في المدينة الفاضلة … وفشا فيها القتل لأسباب فكرية وسياسية، بعد أن كان نادراً ولأسباب شخصية.
وساءت نظرة الناس إلى علمائهم وأولي الأمر منهم.
وتغير مجرى النقاشات في المدينة الفاضلة:
فتحولوا من نقاشاتهم حول أدلة حكم شرعي ما، إلى نقاشاتٍ حول جدوى تطبيق هذا الحكم.
ومن نقاشاتهم حول كيفية إذابة العنصرية إلى الأسباب التي تجعل عرق ما أفضل من الآخر.
ومن نقاشاتهم حول بعض الأخطاء الفكرية والمنهجية التي تصدر من بعض الناس إلى التعرض إلى نياتهم، والتدخل في حياتهم الخاصة وطرحها على الملأ!
ومن نقاشاتهم حول سير الصحابة والتابعين والأخيار، إلى نقاشاتهم حول سير الساقطين والساقطات.
إلا أن كُتَّاب الساحة وقراءها تنبهوا إلى المؤامرة، وتعاونوا فيما بينهم لمحاربة خفافيش الظلام: فنبهوا الناس إلى التعامل مع ما يكتب في الساحة من أخبار وإشاعات و نقولات عن مشاهير المدينة معاملة الشك حتى يثبت العكس.
وأن الكاتب إذا تبين أنه مغرض ولا يفتح النقاشات بحثاً عن الحق، إنما لمجرد الإثارة أو التشكيك فلا يُقرأ له ولا يُرد عليه.
وأنه على كل كاتب أن يُنبه المشرفين إلى المواضيع المشبوهة حال طرحها.
وهكذا فهم أهالي المدينة الفاضلة طبيعة الصراع، واستطاعوا التخفيف من أثر المؤامرة بعد أن استطاعت خفافيش الظلام أن تفعل في المدينة الفاضلة مالم يستطع سلمان رُشدي فعله فيها بآياته الشيطانية!!!
وبهذا خَفَّ الزَّهْوُ والانتـفاش ... انتفاش الخفاش!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق