
قرية الوباء ... قرية لا تختلف عن باقي القرى إلا في انتشار الأوبئة والأمراض انتشاراً ليس له نظير في أية قرية أخرى.
كانت كبائر الأوبئة والأمراض متفشية في الناس. فلا يخلو بيت من مصاب، وكانت الجنائز منظراً يومياً مألوفاً في القرية.
هرب الأطباء والأصحاء منها على حد سواء، ولم يبق فيها معالجون إلا ممرضون متطوعون بعد أن خلت الساحة من طبيب.
ولم يبق من الناس فيها إلا من اضطر إلى البقاء، معرضاً نفسه وذريته إلى عشرات الأمراض التي تغص بها هذه القرية.
كان في القرية معالجاً مخلصاً لقريته، لم يشأ أن يتركهم لمعاناة الأمراض دون علاج وهو الذي قد جرب المرض وعانى منه.
وقد أعد برنامجاً علاجياً مميزاً وناجحاً إلى حد كبير لعلاج مرضاه.
كان برنامجه يقتضي أن يعزل المرضى المصابين الذين يريدون العلاج عن قرنائهم الموبوئين ويُجلسهم في غرف تحت أشعة قاتلة للأوبئة لساعة كاملة خمس مرات في اليوم، ويحرم عليهم بعض الأطعمة، ويُعطيهم حصة تعليمية أسبوعية عن أمراض القرية وكيفية العلاج منها، و ... و ....
باختصار ... كان برنامجاً متعباً يحتاج إلى همة.
كان هذا المعالج في الأساس أحد ضحايا الأمراض في هذه القرية، وكانت أطلال مرض الجدري واضحة على وجهه.
لم يرق هذا البرنامج لسفهاء القرية، لما فيه من القيود والحرمان، فأخذوا يسخرون من المعالج ومن علاجه، وتركزت سخريتهم على ثلاثة أمور:
- أن المعالج الذي تَصَدَّرَ لعلاج الناس هو نفسه له سوابق مع مرض يُعد من كبائر الأمراض، فأطلال مرض الجدري بادية على وجهه.
- أن الذين يسميهم الناس أصحاء - وهم المرضى الذين خضعوا للعلاج - لا تزال فيهم أمراض أخرى على الرغم من أن 90 % من الأمراض قد شُفوا منها.
- أن كثيراً ممن سلك طريق العلاج لم يصبر عليه وعاد عنه إلى أسوأ مما كان عليه، فلماذا يُحمِّل الإنسان نفسه هذا العناء ابتداءاً.
كان سفهاء القرية يُصرون على المقارنة بين أصِـحّّائهم وبين أصِـحّاء القرى الأخرى التي لم يتفش فيها المرض، فيحتقرون بذلك أصحاءهم، إذ لا يخلو أصح القوم في القرية من ثلاثة أمراض على الأقل.
حاول المعالج أن يرد شبههم، فكان يرد عليها بهذه الأجوبة:
- أن سوابقه في مرض الجدري - وهو من كبائر الأمراض - بسبب نشأته في مجتمع موبوء، والإنسان لا يعرف في بداية نشأته ما يضره وما ينفعه، فلم يكن يتوقى أماكن المرض حتى انتقل إليه، أما حين علم، فقد سلك طريق العلاج حتى عوفي، فلماذا الإصرار على تعييره، خصوصاً وأن الذين يعيرونه ليسوا بأسلم من الأمراض منه.
- أنه حين يكثر الخبث، يُميز الصحيح عن السقيم بقلة ما عند الصحيح من أمراض وقلة خطورة الأمراض التي عنده بالنسبة لما عند باقي أفراد المجتمع، لا بسلامته التامة من الأمراض، فإن هذا متعذر في قرية فشا فيها هذا الكم من الأمراض.
- أن عدم استمرار بعض المرضى في العلاج، هو لدناءة الهمة عندهم لا لعيب في العلاج.
ولسفول الهمة عند سفهاء القرية، أقنعوا أنفسهم بأن ترك الحبل على الغارب للأمراض مع حرية العيش، أهون من سلوك طريق العلاج المتعب، الذي لم يخرج عنه صحيحاً واحداً يشبه أصحاء المدن المجاورة والمعافاة من هذا البلاء.
كانوا يرددون: نحن ميتون ميتون، فلماذا لا نعيش دنيانا على ما نحب ونهوى بدل إضاعة الوقت في عبث المعالجين؟
وهكذا كان عنادهم، وهكذا ظلت الأمراض تفتك بهم إلى أن هلكوا جميعاً الصحيح منهم والسقيم.
هناك 3 تعليقات:
رائع جدا
بل اكثر من رائع
أستمر فأنت تملك قلما ماسيا ساحرا
واستمر ونحن متابعينك ولو من خلف الكواليس لإن كلماتنا أقل من أن توفي حقك بالتعليق
ونسأل الله أن يشفينيا من جميع الأوبئة ويطهرنا من الذنوب وأن يكثر من أمثال الدكتور العظيم
وشكرا
أخي الكريم:
كلماتك تشجع الكاتب منا على تقديم المزيد وتُعْلِمه أن هناك من يقدّر ما يكتب ويتابعه.
وهذا كاف لتشجيع الكاتب على الكتابة حتى يشعر أن جهوده لا تذهب سدى.
بل حتى النقد يُشعر الكاتب أن هناك متابعين لمواضيعه.
أشكرك على حسن عبارتك وتشجيعك.
كتآبتك رآئعة جداً ، بآرك الله في جهودك ، ربمآ القليل علق وأثنى عليك لَكن آلكثير قرأ كتاباتك وربمآ لم يستطع الرد او التعليق ، لكن جهود المبدع تصل لأبعد الافق .
إرسال تعليق