لا يزال المتجردون للحق يجددون دينهم حتى يلقوا ربهم


بدأ الإسلام غريباً ... وسيعود غريباً كما بدأ، وطالب الحق في زمن الغربة أمام تحد كبير ...
فنحن من جهة ... مقيدون بميراث ديني ثقيل تراكم على هذه الأمة خلال مئات من السنين المظلمة، فاختلطت فيه عقائد الإسلام وشرائعه بالخرافات والبدع والعادات والتقاليد بطريقة يصعب معها على المسلم التفريق بين ما هو من الإسلام مما هو أجنبي عنه.

ونحن من جهة أخرى ... مجروفون بقوة بتيار الانفتاح على الشهوات والشبهات الجارف، وكثير منا لما يتعلم السباحة، لأن المسلم ينشأ في الغالب على طريقة تقليدية في التدين، تركز على أركان الإيمان، وأركان الإسلام، واجتناب كبائر محددة من الفواحش والمعاصي، ومراعاة نزر يسير من أمور الحلال والحرام وقليل من السنن.

وحتى في هذا القليل من الدين تتفاوت المجتمعات المسلمة في العلم به والعمل به تفاوتاً فاحشاًً.

ولهذا... حين يكبر المسلم ويبدأ يفكر، يدخل في صراع بين التدين التقليدي وبين تيارات الشبهات والشهوات الجارفة.

ويحاول أن يضع النقاط على الحروف!!!

إما أخذ الإسلام بقوة .... أو الانجراف مع التيار.

فإذا غلبه التجرد للحق في هذا المحك، واختار طريق الالتزام، فقد خطا أول خطوة وأهم خطوة، في طريق طويل شاق ذي عقبات كؤود.

واختيار طريق الالتزام هو أول تجديد في دينه وأهم تجديد ...

لكن قصة التجرد للحق والتجديد في دينه قد بدأت للتو ... يبدأ المسلم في الالتزام بتعلم الدين ...

وحينها، إما أن يعتمد على قراءاته الخاصة، فيكون كحاطب ليل، أو يعتمد على جماعة إسلامية، فيكون إسلامه إسلام تلك الجماعة، فقد يكون دعاتها دعاة هدى وسنة، وقد يكونون دعاة على أبواب جهنم، وقد يكونون بين ذلك سبيلاً.

أياً كان الحال، إذا تجرد للحق، سيأتي عليه يوم ويكتشف أن عدداً من القضايا والمسائل التي تعلمها لم يكن مصيباً فيها، مع أنه كان قد تبناها وعمل بها وصارع من أجلها واستمر عليها لسنوات أو عقود.

قد يكون عدد هذه القضايا كبيراً و قد يكون صغيراً ...

قد تكون القضايا فرعية، وقد تكون في أساس العقيدة أو المنهج - حسب نوعية مطالعته أو الجماعة التي نشأ على منهجها.

وعلى كل الفروض، يحتاج المسلم إلى تجديد دينه في هذه القضايا علماً وعملاً.

ومثل هذا التجرد والتجديد هو عملية مستمرة لا تنتهي ...

فلا يزال المتجرد للحق يجدد دينه حتى يلقى ربه ...

والتجديد الذي أعنيه هنا هو الرجوع إلى الحق نظرياً وعملياً في كل قضية يكتشف المسلم أنه خالف فيها الحق.

فدين المتجرد للحق أبعد ما يكون عن الجمود ...

فهو في عملية مراجعة وغربلة مستمرة، لمعتقداته، وعباداته، وسلوكياته، فكل شيء يعرضه على منخل الكتاب والسنة ملتمساً في ذلك فهم سلف الأمة.

وهو لا يفترض أن ما تعلمه أو توصل إليه من الإسلام هو الكلمة الأخيرة التي لا تراجع عنها.

ذلك لأننا ورثنا ميراثاً ثقيلاً - كما أسلفنا - من جهة ... وتيار الانفتاح قد نال من فهمنا للإسلام ما نال من جهة أخرى!

وغربلة وتصفية هذا الميراث وهذه المفاهيم الحديثة الدخيلة من أجل الحصول على الإسلام الأصيل ليس بالأمر السهل ...

فهي تستلزم من المسلم أن يكون على علم وتجرد كبير للحق ...

تجرد من الهوى ...

تجرد من العادات والتقاليد ...

تجرد من معتقدات الآباء والأجداد ...

تجرد من الانهزامية أمام شبهات المستشرقين ...

تجرد من الأفكار السائدة في جماعته ولو كانوا صالحين ...

تجرد من عواطف الجماهير الإسلامية وضغطها على تفكيره ...

تجرد من الأخلاق والقيم والأفكار المهيمنة على العالم التي هي في نظرهم مثالية...

باختصار ... يحتاج أن يتجرد من كل شيء غير الكتاب والسنة لموافقة الحق.

ولو أن التجرد وصل في البشر إلى درجة الكمال، لما كان للزمان ولا للمكان ذلك الأثر على أقوالهم وأرائهم إلا بالقدر الذي لا بد منه والذي تراعيه الشريعة.

حتى أنك لو جمعت المسلمين المتجردين للحق من شمال الكرة الأرضية وجنوبها وشرقها وغربها ...

ولو جمعت من سَلَفَ منهم بمن خلف ...

لرأيت تقارباً شديداً في الأقوال على الرغم من اختلاف المكان والزمان.

ولا يزال المتجردون للحق يجددون دينهم حتى يلقوا ربهم ...



هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

رائع وفقك الله. دائماً أرجعُ إلى هذه التدوينة كلما شعرتُ ببعض الغربة...

ليتك تعود أيها المبدع.